فصل: تفسير الآية رقم (36):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ}
قوله تعالى: {يهدي إِلَى الحق}: قد تقدم في أول هذا الموضوع أنَّ هدى يتعدى إلى اثنين ثانيهما: إمَّا باللام أو بإلى، وقد يُحْذَفُ الحرفُ تخفيفًا. وقد جُمع بين التعديتين هنا بحرف الجر فَعَدَّى الأول والثالث بإلى والثاني باللام، وحُذِف المفعولُ الأول من الأفعال الثلاثة، والتقدير: هل مِنْ شركائكم مَنْ يَهْدي غيره إلى الحق قل اللَّهُ يَهْدي مَنْ يشاء للحق، أفَمَنْ يهدي غيرَه إلى الحق. وزعم الكسائي والفراء وتبعهما الزمخشري أنَّ {يهدي} الأولَ قاصرٌ، وأنه بمعنى اهتدى. وفيه نظر، لأن مُقابلَه وهو {قُلِ الله يَهْدِي لِلْحَقِّ} متعدٍّ. وقد أنكر المبرد أيضًا مقالة الكسائي والفراء وقال: لا نَعْرِفُ هَدَى بمعنى اهتدى قلت: الكسائي والفراء أَثْبتاه بما نقلاه، ولكن إنما ضَعُف ذلك هنا لِما ذَكَرْت لك من مقابلته بالمتعدي، وقد تقدَّم أن التعديةَ بإلى أو اللام من باب التفنُّن في البلاغة، ولذلك قال الزمخشري: يقال: هَدَاه للحق وإلى الحق، فجمع بين اللغتين.
وقال غيره: إنما عدى المسندَ إلى الله باللام لأنها أَدَلُّ في بابها على المعنى المرادِ من إلى؛ إذ أصلُها لإِفادةِ المُلْك، فكأن الهداية مملوكة لله تعالى وفيه نظر، لأن المراد بقوله: {أَفَمَن يهدي إِلَى الحق} هو الله تعالى مع تَعدِّي الفعلِ المسند إليه بإلى.
قوله: {أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ} خبرٌ لقوله: {أَفَمَنْ يَهْدي} و{أن} في موضعِ نصبٍ أو جرٍّ بعد حذف الخافض، والمفضَّلُ عليه محذوفٌ، وتقديرُ هذا كله: {أَفَمَنْ يهْدي إلى الحقّ أَحَقُّ بأن يُتَّبَع ممَّن لا يَهْدي}. ذكر ذلك مكي ابن أبي طالب، فجعل {أحقّ} هنا على بابها من كونها للتفضيل. وقد منع الشيخ كونَها هنا للتفضيل فقال: {وأحق} ليست للتفضيل، بل المعنى: حقيقٌ بأن يُتَّبع. وجوَّز مكي أيضًا في المسألة وجهين آخرين أحدهما: أن تكون {مَنْ} مبتدأ أيضًا، و{أن} في محلِّ رفع بدلًا منها بدلَ اشتمال، و{أحقُّ} خبرٌ على ما كان. والثاني: أن يكون {أن يُتَّبع} في محلِّ رفعٍ بالابتداء، و{أحقُّ} خبرُه مقدَّم عليه. وهذه الجملةُ خبر لـ {مَنْ يَهْدي}، فَتَحَصَّل في المسألة ثلاثة أوجه.
قوله: {أَمَّن لاَّ يهدي} نسقٌ على {أفمن}، وجاء هنا على الأفصحِ مِنْ حيث إنَّه قد فُصِل بين أم وما عُطِفَتْ عليه بالخبر كقولك: زيدٌ قائم أم عمرو ومثله: {أذلك خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الخلد} [الفرقان: 15]. وهذا بخلاف قوله تعالى: {أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ} [الأنبياء: 109] وسيأتي هذا في موضعه.
وقرأ أبو بكر عن عاصم بكسر ياء {يهدي} وهائه.
وحفص بكسر الهاء دون الياء. فأمَّا كسر الهاء فلالتقاء الساكنين، وذلك أن أصلَه يَهْتدي، فلما قُصِد إدغامُه سكنَتْ التاء، والهاءُ قبلَها ساكنة فكُسِرَتْ الهاءُ لالتقاء الساكنين. وأبو بكر أتبع الياء للهاء في الكسر. وقال أبو حاتم في قراءة حفص هي لغة سُفْلَى مُضَر، ونَقَل عن سيبويه أنه لا يُجيز {يِهْدي} ويجيز تِهْدي ونِهْدي وإهدي، قال: لأن الكسرةَ تَثْقُل في الياء، قلت: يعني أنه يُجيز كَسْرَ حرفِ المضارعة من هذا النحو نحو: تِهْدي ونِهدي وإهدي إذ لا ثِقَلَ في ذلك، ولم يُجِزْهُ في الياء لثقل الحركةِ المجانسةِ لها عليها. وهذا فيه غَضٌّ من قراءة أبي بكر، ولكنه قد تواتَرَ قراءةً فهو مقبول.
وقرأ أبو عمرو وقالون عن نافع بفتح الياء واختلاس فتحة الهاء وتَشْديد الدال، وذلك أنهما لَمَّا ثقَّلا الفتحة لإِدغام اختلسا الفتحة تنبيهًا على أن الهاءَ ليس أصلُها الحركةَ بل السكون.
وقرأ ابن كثير وابن عامر وورش بإكمال فتحة الهاء على أصل النقل. وقد رُوي عن أبي عمرو وقالون اختلاسُ كسرةِ الهاءِ على أصل التقاء الساكين، والاختلاس للتنبيه على أنَّ أصلَ الهاءِ السكون كما تقدم.
وقرأ أهلُ المدينة خلاورشًا بفتح الياء وسكون الهاء وتشديدِ الدال. وهذه القراءةُ استشكلها جماعةٌ من حيث الجمعُ بين الساكنين.
قال المبرد: مَنْ رام هذا لابد أن يُحَرِّكَ حركةً خفيَّة.
وقال أبو جعفر النحاس: لا يقدر أحدٌ أن يَنْطِقَ به.
قلت: وقد قال في التيسير: والنصُّ عن قالون بالإِسكان، قلت: ولا بُعْدَ في ذلك فقد تقدَّم أن بعضَ القُرَّاء يَقْرأ {نِعِمَّا} [النساء: 58] و{لاَ تَعْدُواْ} [النساء: 154] بالجمع بين الساكنين، وتقدَّمت لك قراءاتٌ كثيرة في قوله: {يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} [البقرة: 20]، وسيأتي لك مثلُ هذا في {يَخِصِّمُونَ} [يس: 49].
وقرأ الأخَوان {يَهْدي} بفتح الياء وسكون الهاء وتخفيفِ الدال مِنْ هدى يَهْدي وفيه قولان:
أحدهما: أنَّ هدى بمعنى اهتدى.
والثاني: أنه متعدٍّ، ومفعولُه محذوف كما تقدَّم تحريره. وقد تقدم قول الكسائي والفراء في ذلك ورَدَّ المبرد عليهما.
وقال ابن عطية: والذي أقوال: قراءةُ حمزة والكسائي تحتمل أن يكون المعنى: أَمْ مَنْ لا يهدي أحدًا إلا أن يهدى ذلك الأحدُ بهداية الله، وأمَّا على غيرِها مِنَ القراءات التي مقتضاها أم لا يَهْتدي إلا أن يهدى فيتجه المعنى على ما تقدَّم.
ثم قال: وقيل: تمَّ الكلامُ عند قوله: {أم مَنْ لا يَهِدِّي}، أي: لا يَهِدِّي غيره.
ثم قال: {إِلاَّ أَن يهدى} استثناءٌ منقطع، أي: لكنه يحتاج إلى أن يهدى كما تقول: فلان لا يسمع غيره إلا أَنْ يُسْمع، أي: لكنه يحتاج إلى أن يَسمع. انتهى.
ويجوز أن يكونَ استثناءً متصلًا، لأنه إذ ذاك يكون فيهم قابليةُ الهدايةِ بخلافِ الأصنام. ويجوز أن يكونَ استثناء من تمامِ المفعول له، أي: لا يهدي لشيءٍ من الأشياءِ إلا لأَجْل أن يهدى بغيره.
وقوله: {فَمَا لَكُمْ} مبتدأ وخبر. ومعنى الاستفهام هنا الإِنكارُ والتعجبُ، أي: أيُّ شيءٍ لكم في اتخاذ هؤلاء إذ كانوا عاجزين عن هدايةِ أنفسهم فكيف يمكن أن يَهْدُوا غيرَهم؟ وقد تقدَّم أن بعضَ النحويين نصَّ على أن مثل هذا التركيبِ لا يتمُّ إلا بحالٍ بعده، نحو: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ} [المدثر: 49] {وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ} [المائدة: 84] إلى غير ذلك، وهنا لا يمكن أن تُقَدَّر الجملةُ بعد هذا التركيب حالًا لأنها استفهامية، والاستفهامية لا تقع حالًا. وقوله: {كيف تحكمون} استفهامٌ آخرُ، أي: كيف تحكمون بالباطل وتجعلون لله أندادًا وشركاء؟. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمْ مَنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35)}
الحقُّ اسمٌ من أسمائه سبحانه، ومعناه أنه موجود، وأنه ذو الحق، وأنه مُحِقُ الحقِّ.
والحقُّ من أوصاف الخَلْق ما حَسُنَ فعله وصحُّ اعتقاده وجاز النطق به.
و{اللَّهُ يَهْدِى لِلْحَقِّ}: أي إلى الحق هدايته. وهداه له وهداه إليه بمعنىً؛ فَمَنْ هداه الحقُّ للحقِّ وَقَفَه على الحقِّ، وعزيزٌ منْ هداه الحقُّ إلى الحقِّ للحقِّ، فماله نصيبٌ وماله حَظٌ. اهـ.

.تفسير الآية رقم (36):

قوله تعالى: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما أخبر بإقرارهم عن بعض ما يسألون عنه ثم عقبه بما لوح إلى إنكارهم أو سكوتهم عن بعضه مما يتعلق بشركائهم، عطف على ما صرح به من قولهم: {فسيقولون} وما لوح إليه من فسينكرون أو فسيسكتون قوله: {وما يتبع} أي بغاية الجهد {أكثرهم} أي نطقه أو سكوته في عبادته للأصنام وقوله: إنها شفعاء، وغير ذلك {إلا ظنًا} تنبيهًا على أنهم إنما هم مقلدون وتابعون للأهواء.
ولما كان الظن لا ينكر استعماله في الشرائع، نبه على أن محله إنما هو حيث لا يوجد نص على المقصود، فيقاس حينئذ على النصوص بطريقة، وأما إذا وجد القاطع في حكم فإنه لا يجوز العدول عنه بوجه من الوجوه فقال تعالى في جواب من يقول: أو ليس الظن مستعملًا في كثير من الأحكام؟: {إن الظن لا يغني} أي أصلًا {من الحق} أي الكامل {شيئًا} أي بدله، ولايكون بدل الحق إلا إذا كان تابعه مخالفًا فيه لقاطع يعمله.
ولما صار ظهور الفرق ضروريًا، أوقع تهديد المتمادي في غيه في جواب من كأنه قال: إن ذلك غير خفي عنهم ولكنهم يستكبرون فلا يرجعون، فقال: {إن الله} أي المحيط بكل شيء {عليم} أي بالغ العلم {بما يفعلون} فاصبر فلسوف يعملون. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّا}
فيه وجهان: الأول: وما يتبع أكثرهم في إقرارهم بالله تعالى إلا ظنًا، لأنه قول غير مستند إلى برهان عندهم، بل سمعوه من أسلافهم.
الثاني: وما يتبع أكثرهم في قولهم الأصنام آلهة وأنها شفعاء عند الله إلا الظن والقول الأول أقوى، لأنا في القول الثاني نحتاج إلى أن نفسر الأكثر بالكل.
ثم قال تعالى: {إَنَّ الظن لاَ يُغْنِي مِنَ الحق شَيْئًا} وفيه مسألتان:

.المسألة الأولى: [في تمسك نفاة القياس بهذه الآية]:

تمسك نفاة القياس بهذه الآية، فقالوا: العمل بالقياس عمل بالظن، فوجب أن لا يجوز، لقوله تعالى: {إَنَّ الظن لاَ يُغْنِي مِنَ الحق شَيْئًا}.
أجاب مثبتو القياس، فقالوا: الدليل الذي دل على وجوب العمل بالقياس دليل قاطع، فكان وجوب العمل بالقياس معلومًا، فلم يكن العمل بالقياس مظنونًا بل كان معلومًا.
أجاب المستدل عن هذا السؤال، فقال: لو كان الحكم المستفاد من القياس يعلم كونه حكمًا لله تعالى لكان ترك العمل به كفرًا لقوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكافرون} [المائدة: 44] ولما لم يكن كذلك، بطل العمل به وقد يعدون عن هذه الحجة بأنهم قالوا: الحكم المستفاد من القياس إما أن يعلم كونه حكمًا لله تعالى أو يظن أو لا يعلم ولا يظن والأول باطل وإلا لكان من لم يحكم به كافرًا لقوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكافرون} [المائدة: 44] وبالاتفاق ليس كذلك.
والثاني: باطل، لأن العمل بالظن لا يجوز لقوله تعالى: {إَنَّ الظن لاَ يُغْنِي مِنَ الحق شَيْئًا} والثالث: باطل، لأنه إذا لم يكن ذلك الحكم معلومًا ولا مظنونًا، كان مجرد التشهي، فكان باطلًا لقوله تعالى: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصلاة واتبعوا الشهوات} [مريم: 59].
وأجاب مثبتو القياس: بأن حاصل هذا الدليل يرجع إلى التمسك بالعمومات، والتمسك بالعمومات لا يفيد إلا الظن.
فلما كانت هذه العمومات دالة على المنع من التمسك بالظن، لزم كونها دالة على المنع من التمسك بها، وما أفضى ثبوته إلى نفيه كان متروكًا.

.المسألة الثانية: [فيمن يخالجه الشك في مسائل الأصول]:

دلت هذه الآية على أن كل من كان ظانًا في مسائل الأصول، وما كان قاطعًا، فإنه لا يكون مؤمنًا.
فإن قيل: فقول أهل السنة أنا مؤمن إن شاء الله يمنع من القطع فوجب أن يلزمهم الكفر.
قلنا: هذا ضعيف من وجوه:
الأول: مذهب الشافعي رحمه الله: أن الإيمان عبارة عن مجموع الاعتقاد والإقرار والعمل، والشك حاصل في أن هذه الأعمال هل هي موافقة لأمر الله تعالى؟ والشك في أحد أجزاء الماهية لا يوجب الشك في تمام الماهية.
الثاني: أن الغرض من قوله إن شاء الله بقاء الإيمان عند الخاتمة.
الثالث: الغرض منه هضم النفس وكسرها والله أعلم. اهـ.